لماذا يحدث هذا مع محي الدين اللباد ؟
رسالة الاستاذ محي الدين اللباد التي نشرت باخبار الادب ...
يحكي فيها ما حدث معه وهو رمز ورائد من رواد الفن التشكيلي ..
سقطتُّ في امتحان لم أتقدم له !
الدكتور عماد أبو غازي رجل مهذب، وأستاذ جامعي، ومن عائلة مثقفين. يُرسل لي رسالة قصيرة علي المحمول في كل عيد، وأرد عليه بمثلها، خاصة بعد أن أصبحت ماهرًا في هذه اللعبة.
والدكتور عماد اتصل بي تليفونيًا منذ أكثر من شهرين، وطلب مني تصميم ملصق موجّه للطليان ليُعرض في المعرض الدولي للكتاب بمدينة تورينو، بمناسبة اختيار مصر ضيف شرف علي المعرض في دورته القادمة. أجبته بالموافقة، وطلبت منه ردودًا علي بعض الأسئلة المهنية وبعض البيانات الضرورية والترجمات إلي الطليانية.
جعلت العنصر الرئيس للملصق رسمًا لبنت من بنات عروض موالد الأولياء في مدن الريف والأحياء الشعبية في المدن الكبري. وكنّ بنات يظهرن علي منصّات خارج الأكشاك الخشبية والسرادقات الفقيرة التي تقام داخلها تلك العروض، بغرض الدعاية وحث الجمهور لقطع التذاكر والدخول لمشاهدة العرض.
أخذتُ رسم البِنت من لوحات الرسم الشعبي علي الزجاج التي استخدمها فنان الوشم ليلفت بها أنظار الزباين في السوق الريفي المزدحم.
كررت رسم البنت 3 مرات في الملصق، أحدها في قياس مكبر، وجعلت في يمناها كتابًا مفتوحًا. وفوق رأس البنت كان هناك «بالون» مستعرض مثل »البالونات« التي يُكتَب داخلها الحوار في القصص المرسومة. وبداخله -بدلاً من الكلمات المكتوبة- كان هناك سطر من الرسوم كما لو كان حديث البنت المفترض الموجّه إلي الطلياني زائر المعرض: بلبل ملون. سمكة . يدان تتصافحان . نخلة طرحت بلحًا أحمر . شمس خضراء . زهرة . وكلها صور تحيل بسهولة إلي معانٍ غير بعيدة، وتذكرك بالكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة.
أعتذر عن هذا الشرح التفصيلي الذي يكاد أن يكون شرحًا أدبيًا لا أفضّله لعمل بصري، بل كنت أفضّل أن يتسلم المشاهد الرسالة بعينيه من مجموع عناصره ودفعة واحدة.
سجلت الملصق علي اسطوانة »سي-دي« وأرسلتها إلي الدكتور عماد أبو غازي، وأرفقتها بطلب أن يطبعوا لي نسخة تجريبية رقمية بالألوان لأطمئن علي العمل.
لثلاثة أو أربعة أيام لم يرد أحد علي طلبي. فاتصلت بالدكتور عماد لأسأله عن التجربة المطبوعة التي لم تصل بعد. ودار الحوار »التاريخي« التالي:
- صباح الخير يا دكتور عماد. عرفت أنك كنت مسافر. حمدالله ع السلامة !
- الله يسلمك. شكرًا !
- أنا بعتّ لك الملصق علي اسطوانة »سي-دي«. وطلبت تجربة مطبوعة ولم يتصل بي أحد من هيئة الكتاب.
- (بصوته المهذب الخالي من الانفعالات) - أصل لجنة معرض تورينو في هيئة الكتاب رفضت الملصق !
- ...... !
(بنفس الصوت الخالي من الانفعال ومن أي شعور بالمسئولية أيضًا) -
أصل لا الست المرسومة مصرية (!)،
ولا التصميم مصري (!!)، ولا أي حاجة مصرية (!!!).
خلو الصوت من أي مشاعر أو ارتباك اجتماعي لم يوضح لي إن كانت هذه الآراء هي آراء أعضاء اللجنة وحدهم ينقلها لي الدكتور عماد بحياد وبرود، أم أنه يشاركهم تلك الآراء.
كانت الصدمة جليلة، بحيث منعتني من إظهار رد الفعل الطبيعي في مثل تلك الظروف. فحاكيت الدكتور أبو غازي في تبلد المشاعر وخرجت مني كلمة واحدة بنبرة سليمة وكأنها حقيقية:
- شكرًا !
- لأ .. العفو ! (كما لو فهم أني أشكره بجدّ !).
!!!!!!!!!!
هكذا ببساطة. مثل »سلامو عليكو«- : »عليكو السلام« !
بعد فترة من السكون والجمود، قلت لنفسي: لا يا ولد. لابد أن الدكتور عماد بعد أن يضع السماعة، سيدرك أي إهانة وجهها إلي رجل عمل في هذا المجال لخمسين عامًا، رسامًا، ومصممًا، وكاتبًا، ومسئولاً، ومديرًا فنيًا، ومشرفًا علي مشاريع فنية كبري، لكن الدكتور أبو غازي تصرف معه كرجل سيء الحظ جاءه يطلب عملاً. لابد أنه سيتصل للاعتذار بعد قليل.
فات النهار وخيّم الليل؛ فقلت لنفسي: لابد أن الدكتور عماد سيأوي إلي فراشه الآن بعد يوم عمل مزدحم ومرهق وطويل. ولعله حين يستلقي، ويسحب »الكوفرته« علي جسمه (كانت موجة الحر قد بدأت) سيتذكر كارثة المكالمة التليفونية، ويهبّ للاتصال ــ حتي في ذلك الوقت المتأخر- ليهدئ من خاطر رجل عمل مديرًا فنيًا مسئولاً عند عدة مشاريع ثقافية وفنية كبري، في بلده وفي منطقته وفي أنحاء العالم ومع مؤسسات دولية.
قصر الكلام: لم يتصل الدكتور عماد أبو غازي حتي اليوم ولم يعتذر لرجل في أواخر عمره عمل طويلاً محكمًا لاختيار الأعمال الفنية في مجال الاتصالات البصرية علي المستوي المحلي والإقليمي والدولي.
ويبدو أن الدكتور عماد لم يسأل نفسه بعض الأسئلة البسيطة:
- هل أبلغني حين طلب مني الملصق أني سوف أتقدم به إلي امتحان يصدر الحكم بقبول العمل أو رفضه بواسطة لجنة؟ وهل وافقته علي ذلك؟
- ما هي مسئولية الدكتور عماد أمامي (مقابل مسئوليتي أمامه التي جعلتني أعمل لشهرين)؟ هل هي مجرد إبلاغي بنتيجة »الامتحان« دونما أي انفعال وبصوت خال من الشعور بالمسئولية ومن الذوق السليم؟
- هل يشارك الدكتور اللجنة رأيها في مسألة جنسية البنت وجنسية عناصر الملصق (لا مصرية ولا هم يحزنون). كيف عرف الدكتور ذلك؟ وهل هو متأكد من أهليته للحكم؟ وإذا حققنا في »الجريمة« واتضح أن البنت وعناصر الملصق من التابعية المصرية، هل سيستقيل الدكتور من مسئولياته الثقافية؟ أم سينكر حديثه في التليفون؟
لقد اطلعت علي الملصق الذي أنجز لمعرض جنيف الدولي للكتاب في العام الماضي، ولابد أن اللجنة (بما فيها الدكتور عماد) قد وافقت علي تصميم ذلك الملصق الذي كان من حافته إلي حافته صورة رديئة مكبرة لحائط أثري حُفرت عليه سطور من الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة. ولا ريب، فالكتابة المحفورة جنسيتها المصرية واضحة. و نستخدمها منذ أكثر من 100 عام كرمز واضح، المصرية، ولذا -غالبًا- ما تمت الموافقة علي ذلك الملصق بسهولة وبلا مناقشة.
ونحن غالبًا ما نفضّل الطعام الذي سبق أن مضغه غيرنا من قبل، ونختار الأعمال الفنية التي سبق لغيرنا أن اعتمدها من قبل، ولا نغامر بالبحث -بحريّة- عن الجديد. ولهذا السبب هذا هو حالنا.